خالد الحافظ _ LES7TV
في سياق الجهود الوطنية لمحاربة العشوائية وتنظيم الملك العمومي، تبنّت الدولة المغربية منذ مطلع الألفية سياسة تهدف إلى إدماج الباعة الجائلين داخل فضاءات تجارية مهيكلة، أُطلق عليها اسم “الأسواق النموذجية”. هذه المشاريع التي أطلقت في أعقاب أحداث 16 ماي 2003، اعتُبرت حينها بمثابة حل استعجالي لمعضلة حضرية تؤرق السلطات، خاصة في المدن الكبرى كالدار البيضاء. غير أن تجربة أكثر من عشرين سنة أثبتت أن هذه السياسة، وإن كانت تحمل نوايا طيبة، فقد شابها الكثير من الارتجال وسوء التنزيل.
تجربة آسفي: بين السياسة الفوقية والتنزيل المبتور
في إقليم آسفي، لم تكن التجربة مختلفة عن باقي جهات المملكة. فعلى الرغم من رصد مبالغ مالية ضخمة ضمن مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فقد جاء تنزيل الأسواق النموذجية بطريقة يمكن وصفها بـ”الفوقية”، حيث لم تسبقه دراسات ميدانية حقيقية أو مقاربات تشاركية مع الفئات المستهدفة.
المثير في الأمر أن مكتب الدراسات المكلف بالمشروع لم ينجز أي بحث ميداني معمق حول عدد الباعة الجائلين، طبيعة أنشطتهم، أو مدى استعدادهم للانتقال إلى الفضاءات الجديدة. فكانت النتيجة تشييد أسواق أقرب إلى “براريك مغشوشة” محاطة بصفائح معدنية (جالوق)، لا ترقى إلى الحد الأدنى من المعايير النموذجية، لا من حيث البنية التحتية ولا من حيث التصميم التجاري.
الزبونية والريع بدل التنظيم
الأكثر إثارة للقلق هو الطريقة التي تم بها توزيع المحلات التجارية داخل هذه الأسواق. تشير مصادر من آسفي إلى أن عددًا من المستفيدين الحقيقيين لا علاقة لهم بالباعة الجائلين، بل حصلوا على المحلات عبر وساطات مشبوهة، إما من خلال قربهم من رجال سلطة أو عبر تدخلات بعض الأشخاص النافذين داخل عمالة الإقليم.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن بعض المحلات بيعت في السوق السوداء، وتم الاستيلاء على الفضاءات المخصصة للممرات أو للتجول داخل السوق، وتحولت إلى أكشاك إسمنتية، ما قضى على أي أمل في تحقيق “نموذجية” هذه الأسواق.
عودة الفوضى: بائعون يغادرون ولا يرجعون
مع توالي السنوات، تكررت مشاهد مغادرة العديد من الباعة للأسواق النموذجية، إما بسبب ضعف الرواج التجاري داخلها، أو لعدم قدرتهم على أداء الرسوم والواجبات المفروضة عليهم، أو ببساطة لأن السوق لا يستجيب لطبيعة نشاطهم. هؤلاء عادوا إلى الشارع العام، واستعادوا مواقعهم العشوائية، لتعود المدينة إلى نقطة الصفر.
دروس من البيضاء… وفشل جماعي
ما حدث في آسفي ليس حالة استثنائية. مدينة الدار البيضاء، التي كانت أول من احتضن هذه المشاريع في أحياء مثل سيدي البرنوصي وعين الشق، شهدت هي الأخرى فشلًا ذريعًا في احتواء الظاهرة. فحسب فاعلين محليين، استفاد من هذه الأسواق أشخاص لا علاقة لهم بالمهنة، بينما رفض الباعة الجائلون الانتقال إليها بسبب ارتفاع التكاليف وانعدام الرواج.
حتى عندما حاولت بعض المقاطعات تبني حلول بديلة، كاستخدام جدران المدارس العمومية لتثبيت محلات مؤقتة، قوبلت المبادرة بانتقادات حادة بسبب تشويهها للفضاء التربوي وعدم قدرتها على استيعاب العدد الكبير من الباعة.
إلى أين؟
تؤكد هذه التجارب المتعددة أن سياسة الأسواق النموذجية، كما طُبّقت، لم تستحضر البعد التشاركي ولا الواقع الاقتصادي والاجتماعي للباعة الجائلين. كما أن غياب الرقابة والشفافية ساهم في تحريف أهداف هذه المشاريع، وتحويلها في بعض الحالات إلى مشاريع ريعية تستفيد منها فئات غير مستحقة.
إن معالجة ظاهرة الباعة المتجولين، سواء في آسفي أو البيضاء أو غيرها، تتطلب رؤية شمولية، تنطلق من مقاربة اجتماعية واقتصادية متكاملة، تُشرك الفاعلين المحليين، وتراعي كرامة الباعة وحقوقهم، بدل اللجوء إلى حلول تقنية شكلية أو زجرية مؤقتة.
فما لم تُراجع الدولة سياساتها على هذا المستوى، ستظل الأسواق النموذجية مشاريع تُشيّد على الورق، بينما تعود الفوضى إلى الشارع كل مرة بثوب جديد.